من أسوء مخرجات ومخترعات الحياة المعاصرة وضع البشر في صناديق متراصة رأسيا، لا أعرف متى وأين بدأ رص البشر بعضهم فوق بعض، أظن أن اختراع مادة الإسمنت على يد الانجليز في القرن التاسع عشر هو ما بدأ هذه الظاهرة، لكنه اختراع لم يزد البشر غير مهانة ووهن وضياع ملكات وتدمير مقومات نفسية وجسدية.
كانت هناك مباني متعددة الطوابق عبر التاريخ، وفي اليمن القديم ظهرت أول ناطحات سحاب في تاريخ البشر، لكن أحسبها كانت جميعا مساكن عائلية خاصة.
كانت أهم خصائص السكن الآدمي أن تسكن على قطعة من الأرض تخصك تتسع او تضيق، تمتلك أرضها وسماءها وتستقل بمدخلها ومخرجها ويكون لك فيها حيزك المستقل صغر أو كبر، في بيتك مساحات مكشوفة ومغلقة وسطح تصعد عليه ومنافذ قليلة أو كثيرة تربطك بالعالم الخارجي.
بالنسبة للصغار كان المسكن دائما مهما صغر مكانا مناسبا للعب ولصياغة علاقتهم بالعالم، المنزل لا يفصله عن العالم غير عتبة دار وهو عادة عند الأطفال الفارق بين الليل والنهار، فالبيت للمبيت وخارج الدار للانطلاق ومعرفة العالم، اتصال سلس رقيق بين الداخل والخارج يتحول إلى نفس النمط والتركيبة النفسية داخل الطفل النامي، بينما يتحول داخل البيت المتلاحم مع خارجه من جهات عدة إلى مكان عظيم للعب الغميضة!.
يقول المعماري العظيم حسن فتحي:
البيت الذي لا يستطيع الأطفال أن يلعبوا فيه “استغماية” ليس مكانا آدميا للمعيشة!
أما للكبار فهو مكان شعور الانسان بسلطانه ومملكته مهما تفاوت حاله بين ثراء وبساطة، يقرر من يجتاز عتبته، ويجلس متى شاء على سطحه أو في فنائه، يرقب سماءه في أنفة وهو متحرر من أثوابه رجلا كان أو امرأة، لا أن ينظر إلى سقف بيته متخيلا أمة من الناس فوقه في عوالمهم وضجيجهم، يقوم على صيانة داره وحده، ويصلح إن احتاج جداره ومرافقه بقراره وموارده، ويغرس إن شاء شجرة أو زهوراً حوله، ويضع فيه لمساته في الحياة بلا شربك يخالفه ويشاكسه، فهو ليس مجرد رقم في عنبر مساجين ولا فأر تجارب في مختبر مليء بالأقفاص.
فكرة الدار عبر التاريخ ليس القاسم المشترك فيها المساحة والارتفاع وتعقيد البناء، قد تتراوح الدار بين بيت بسيط (للمبيت) وبين قصر مشيد يقصرك عن الاحتياج لشيء ويحوي كل مقومات الحياة، لكن يجمعهم جميعا فكرة “الدار” التي تداريك، الاستقلال والخصوصية، الدار على بساطتها هي الكرامة والكبرياء، وسلطانك على حيزك من غير شربك حتى لو كان المنزل مستأجرا غير مملوك، ثم التلاحم المباشر مع البيئة والحي والعالم الذي يبدأ عند عتبة الدار.
إن منظر كهل مترهل يجلس في شرفة منزل في طابق من طوابق برج إسمنتي هي ذروة البؤس الحداثي الداعي للشفقة، وهي لا تختلف كثيراً في نظري عن منظر الغوريلا خلف القضبان في حديقة الحيوان!.
أما الأطفال في شققهم فهم أقرب للكناري في قفص تلعب وتقفز ولا يدركون بعد حجم ما تفقده أراوحهم ونفوسهم وعقولهم من نمو واستواء، إن ما يميز آباء الأمس عن اليوم ليس على الأرجح أنهم كانوا أكثر عقلا وحكمة بل قدرة الطفل على إيجاد مجاله ومساحته وإطلاق طاقات الكبت أو سوء التربية وتصحيح أخطاء الأبوين بالالتحام الحر مع الطبيعة.
إنها خسائر لا يدركها الطفل ولا سكان علب الأسمنت حتى يصيروا ذلك الكهل الواهن القابع في شرفته.
بقلم: ياسر غانم