دائماً ما يُقال أن الفكر وليد التفاعل بين الأفراد والأزمات التي تنشأ في المجتمع والتي تجعل من الضروري وضع حلول لهذه الأزمات، وقد حدث هذا التفاعل حقاً في المجتمع الغربي أو الأوروبي فى عام 1648 حيث مؤتمر وستفاليا الذي أنهي حرب الثلاثين عاماً بين الولايات المتصارعة -الكاثوليك والبروتستانت- فكان من ضمن نتائج هذا المؤتمر أن تم إرساء مبدأين من أهم المبادئ التي فرضت نفسها بكل قوة في المجتمع الغربي ،وهما مبدأ الدولة القومية التي تقوم على السيادة وتحتكر وسائل ممارسة الإكراه على مواطنيها،والمبدأ الآخر هو علمانية الدولة والذي يعني فصل كل ما له علاقة بالدين عن الدولة وكيانها وممارساتها السياسية.
لكن مع مرور الوقت لم يقف هذين المبدأين عند حدود الدول الموقعة على ميثاق وستفاليا ،حيث ظهور الثورة الصناعية في أوربا وما ترتب على ذلك من حاجة ملحة إلي أسواق للمنتجات وكذلك أخري لتكون مصدراً للحصول على المواد الخام اللازمة لمثل هذه الثورة .كانت المنطقة الواقعة في شمال أفريقيا هدفاً سهلاً في ظل حالة الضعف والتردي الذي كانت تعانيه هذه المنطقة تحت الحكم العثماني الذي ظهرت العديد من مثالبه شأن الامبراطوريات الاخرى التي تقوم وتستقر ثم تنهار في النهاية ،إلا أن الموضوعية تقتضي التأكيد على الخصوصية التي تميزت بها الامبراطورية العثمانية أن أمكن تسميتها كذلك.
نتيجة لهذه الحقبة الاستعمارية بدء المستعمر يفرض مبدأ الدولة القومية ذات السيادة علي مناطقها المحددة وفقاً للتقسيم الذي وضعه بشكل يضمن لهذه القوى الاستعمارية السيطرة على الموارد حتى بعد الخروج من المنطقة وذلك بإثارة الخلافات الحدودية بين دول الجوار، إلا أن الملفت للنظر هنا هو أنه على الرغم من إدراك تداعيات وأخطار استقرار وثبات مبدأ الدولة القومية من عقبات في وجه الوحدة سواء كانت هذه الوحدة بدافع ديني أو لغوي وثقافي وحضاري،أو حتى بدافع مواجه تحديات خارجية ومصير مشترك،ظل هذا المبدأ قائما دون أي تهديد إلى أن امتد الامر تبع ذلك الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة وممارساتها .فترتب على هذا الظهور للتيار العلماني بروز اتجاهات أخري لمواجهتها أهمها التيار المسلح الذي يرمي بالكفر ووجوب القتل لكل من ينادي بهذا الفصل في مجال عمل كلا من الدين والدولة.
يدعونا هذا الوضع للتساؤل لماذا قبل العرب شعباً ونظماً وفكراً مبدأ العلمانية القائم كما سلف الذكر على فصل الدين عن الدولة؟ علي الرغم من أن هذه الدعاوي للفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي كانت نتيجة ظروف وأوضاع وممارسات الكنيسة الاوربية وهو الامر الذي لم نعرفه نحن في واقعنا العربي أو الاسلامي بشكل أكثر دقة لأن الدعاوي المتجه نحو العروبة لم تكن قد ظهرت بعد في الوقت الذي ولد فيه مبدأ العلمانية.
أتساءل لماذا عجزنا نظماً وفكراً عن إنتاج وتطوير مفاهيم تتسم بقدر من الذاتية تعبر عن هويتنا كاملة دون غض الطرف عن أى جزء منها سواء التاريخي أو الجغرافي أو الديني أو اللغوي ؟ ولماذا اكتفينا بالتقليد الأعمى على الرغم من العلم التام بالنتائج والعواقب الوخيمة؟
وبذلك نجد أنفسنا في ظل الأزمات التي صنعتها ثورات الربيع العربى وما تبعها من أحداث وقضايا وتغيرات ما زالت تتجدد باستمرار بحاجة إلى وستفاليا للعرب نجيب في علي التساؤلات سالفة الذكر ونتفاعل فيه مع واقعنا فينتج عن ذلك فكراً يعبر عن هويتنا وذاتنا المميزة.