يوجد عالمان: عالم للآلة وعالم للموسيقى، لا يلتقي الإثنان إلا في العمل النهائي كصورة ظاهرية آلية، لا يمكن تعميقها أو الوصول بها إلى ما هو أبعد. عالم الآلة مركبٌ كميٌّ يتكون من أجزاء يمكن بناءها وفهم تركيباتها وفصلها بمنطق وقانون طبيعي، أما الموسيقى فهي الآلحان تنبع من وجدان العازف كمجاز مرسل عن لا معلوم لا يمكن أن نُعرفّه بالتحديد، إنها كلمات القصيدة ونغمات السيمفونية وشطحات الفرشاة على اللوحة.
في عالم الآلة الطبيعي لا توجد كيفيات، هناك فقط كمٌّ يمكن حسابه، تعديله، إضافته، وترتيبه، فكرة الكيف مستحيلة. أن نقول: إن الطبيعة جميلة أو قبيحة، خيّرة أو شريرة ذلك لا معنى له من الناحية الموضوعية، حيث أن الطبيعة متجانسة ومحايدة ولا يمكن وصفها بصفة لا يمكن ترجمتها بكمية للقياس كالجمال مثلا! أما بالنسبة للإنسان فإن الكيفيات موجودة وحاكمة وهكذا عالم الموسيقى.
“المادة والحياة والشخصية”، يتناول العلم الأولى، ويتناول الفن البقية. ما دون ذلك فوهم أو سوء فهم، لأن العلم عندما يواجه الإنسان والحياة يجد فيهما ما هو ميّت وما هو غير شخصي، بينما يجد الفن ما هو حيّ، إنساني، وذاتي.
في القصيدة وفي اللحن وفي اللوحة الفنية نواجه سرًا أو كيفًا بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، يتجاوز ما يمكن قياسه أو تفسيره بمنطق يتبع قواعد عقلية، فلو نجح أحدهم في تقديم لوحة، لا يمكن التمييز بينها وبين اللوحة الأصلية للفنان يعتبر ذلك عملًا مختلفًا عن إنجاز الفنان. تقدير الفنان لا ينحصر ببساطة في إنتاج لوحة جميلة لها طابعها المميز، بل في الوسيلة التي أبدع بها أسلوبًا أصيلًا، ومجموعة كاملة من اللوحات، فأصالته جزء من منجزه الفني تمامًا كما أن لوحاته التي أبدعها خلال حياته على تنوعها تساهم في فهمنا لكل لوحة على حدة ولا يسعنا سوى تقدير منجزه الفني في حال قمنا بوضع كل لوحة من لوحاته في موضعها الصحيح وسط سياق مجمل أعماله.
في القصيدة وفي اللحن وفي اللوحة الفنية نواجه سرًا أو كيفًا بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، يتجاوز ما يمكن قياسه أو تفسيره بمنطق يتبع قواعد عقلية، فلو نجح أحدهم في تقديم لوحة، لا يمكن التمييز بينها وبين اللوحة الأصلية للفنان يعتبر ذلك عملًا مختلفًا عن إنجاز الفنان. تقدير الفنان لا ينحصر ببساطة في إنتاج لوحة جميلة لها طابعها المميز، بل في الوسيلة التي أبدع بها أسلوبًا أصيلًا، ومجموعة كاملة من اللوحات، فأصالته جزء من منجزه الفني تمامًا كما أن لوحاته التي أبدعها خلال حياته على تنوعها تساهم في فهمنا لكل لوحة على حدة ولا يسعنا سوى تقدير منجزه الفني في حال قمنا بوضع كل لوحة من لوحاته في موضعها الصحيح وسط سياق مجمل أعماله.
وفي حين يسعى المقلد أو المزور أن يمتلك المهارات نفسها التي امتلكها الفنان، فإنه يعجز عن إمتلاك أصالته، التي ملك كيْفَ الجمال “وكل نسخة قبيحة”. فكيف يمكن تفسير هذا الإختلاف بين اللوحة الأصلية وبين نسخة منها بواسطة الكم؟ فهل نشأ هذا الإختلاف من إضافة شيء أو حذف شيء بالمعنى الكمي للكلمة؟ لا… إنما يمكن الإختلاف في أصالة الفنان ولمسته الشخصية، وحده الكيف يمكن أو يُوجد تلك “اللمسة” الشخصية.
يكمن سر اللمسة التي تؤسس للعمل الفني “الجمالي” أنها إنسانية، فالفن دعوة جديدة متجددة لخلق الإنسان، نشوء جديد على الدوام، شكل ومضمون، اعتراف ووهم، لعب ورسالة، قريب من الطبيعة وبعيد عنها، هادف ولا هدف له، تاريخي ولا تاريخي، شخصي وفوق-شخصي في الوقت نفسه كما يصفه هويزر. يمكن -بل يجب- تجريده من أي شيء وأي اهتمام خارجي ليُفسح المجال لما هو بالأساس “إنساني”.
لكي يكون هناك فن، ولكي يكون هناك عمل جمالي ما ونظرة جمالية، لا بد من توفر شرط فيزيولوجي لا محيد عنه: النشوة. نشوة ترفع من وتيرة استثارة الآلة بكليتها، شعور بتفاقم الطاقة وزخم الامتلاء. وبدافع من هذا الشعور يقول نيتشه أننا نضفي من أنفسنا على الأشياء؛ نجبرها على أن تتسلم منا– وتُسمى هذه العملية مثْلنة، لا تتمثل في أننا ننقّي الأشياء ونخصم منها كل صغير وثانوي، بل إن التركيز بصفة هائلة على إبراز الخاصيات الأساسية هو العامل الحاسم في جعل غيرها من الخاصيات يتوارى ويضمحل.
يُثري الإنسان نفسه في هذه الحالة في سحابة من زخمه الخاص: كل ما يرى، وكل ما يريد يراه مكتنزًا، محتقنًا، قويًا، ممتلئًا بفائض من الطاقة. تصبح الأشياء انعكاسات لكماله. هذا التحول المرغَم إلى صورة للكمال- إنما هو الفن. فكل نشوة ومتعة في الفن يجدها في نفسه: في الفن يستمتع الإنسان بنفسه ككمال.
“الجمال في ذاته” كلمة خاوية لا غير، في الجمال يتخذ الإنسان نفسه معيارًا للكمال وكل ما هو جميل هو إنساني بالضرورة
فالقيمة الجمالية “الفنية” واسعة النطاق بشكل يستعصي على التعريف، ولذلك يُوصف فعل صنع الجمال “الفن” بأنه خلق لا عقلاني بطبيعته، وأنه ينبثق من الحس والشعور، أو أنه نزوع للضمير، ومرآة للروح الإنسانية، فيفشل أي نقد عقلاني في استكناه الظاهرة الجمالية، وأقصى ما يطمح إليه النقد هو تناول “المنتج” الفني بمعزل عن العملية الإبداعية الداخلية، وعلى أهمية المنتج الخارجي
المنفصل بصورة شبه مستقلة عن الفنان أو صانع القيمة الجمالية فهو الأدني قيمة عند مقارنته بالوهج الشعوري المصاحب للعملية الإبداعية الخالقة للجمال، وهو الذي ينتقل للمشاهد في حالة أصالة العمل بصورة تُنبأ عن القيمة “الجمالية” التي يكون منشأها الأساسي إنساني.
ـ“الجمال في ذاته” كلمة خاوية لا غير، في الجمال يتخذ الإنسان نفسه معيارًا للكمال وكل ما هو جميل هو إنساني بالضرورة، وبهذا المعنى تظهر حدود “القيم الذاتية” و “الذوق الشخصي” فلا يختلف الكثيرون أن موسيقى بيتهوفن أفضل من الموسيقى الشعبية! فإلى ماذا يرجع هذا الاتفاق يا تُري؟ حسنًا إنه ينبع من تعريف الجمالية نفسها بما هو إنساني فما يقترب منه يصبح التعرف عليه بديهيًا يسهل علينا المشاركة في تجربته ووهجه ولمسته وما يبتعد عنه لا يصبح التعرف عليه بنفس البداهة والانخراط!