رغم اننا نعلم تمام العلم بأننا لسنا كاملين وأن الكمال لله وحده سبحانه جل وعلا وأنه خلقنا بقدرات محدودة عقلياً وجسمانياً، وان كل منا يكمل الآخر إلا أننا في بعض الأحيان وبدون ان نشعر نسعى للكمال أو بمعنى أدق نسعى لصفة الكمال بمفهوم البشر.
ولا أرى عيباً فى ذلك فلولا هذا السعي ما وجدنا للحياة قيمة فكل منا يحاول أن يكون أفضل وهذا فى حد ذاته يجعلنا من ذوي الأهداف ويجعلنا دائمي السعي لتحقيق هذه الأهداف، فليست هناك مشكلة فى ذلك ولكن من المرعب هو إحساس بعض الأشخاص”بالوصول الى الكمال” ففى هذه الحالة يتخذ الشخص مبدأ “العلم المطلق” فيرى نفسه عالم بكل شيئ ولا يعترف بجهله أبداً فهو يرى نفسه ذكي وملم بجميع العلوم إذا تحدثت معه فى الفلسفة تجده يملأ مسامعك بأراء الفلاسفة ويعطي لك محاضرة عن رأيه الشخصي في العلاقة بين الدين والفلسفة وأيهما وجد اولاً ، وإذا تحدثت معه فى التاريخ فيتكلم عن شخصيته المفضلة وكيف كان التاريخ ظالماً لها ولم يعطها حقها ولم يذكرها إلا قليلاً ، وإذا تكلمت معه عن اللغات فيقول لك انه يتكلم أربع أو خمس لغات وهو فى الحقيقة لا يعرف سوى بعض الكلمات من كل لغة منهم،وإذا حدثته فى الطب يخبرك بأن جيرانه يستعينون به لوصف بعض العلاجات لهم فى حالات المرض الطارئة ،وإذا حدثته عن العلوم الطبيعية تجده يتحدث عن النظرية الذرية ونموذج طومسون فى الكيمياء ويحدثك عن قاعدة أرشميدس فى الفيزياء ،وإذا حدثته عن العلوم الشرعية تجده فقيهاً بل ويخبرك بأن أقاربه يستعينون به في تأويل الاحلام.
لا مانع أن يكون الأنسان مطلع على جميع العلوم بل هذا ممتع وهذا ما يجعلنا مثقفين، ولكن من الصعب أن شخص واحد فقط يتقن كل هذه العلوم معاً ويكون بارعاً فيها أيضاً فما فائدة التخصصات إذاً وما فائدة التعامل بين البشر إذا كان كل شخص ملماً بكل شيئ ولا يحتاج الى الاخر هل سيبقى هناك معنى للحياة ؟!
ما ذكرته سابقاً نراه كثيراً فى واقعنا للأسف فكل شخص يقرأ نبذة من هنا وهنا ويعرف قشوراً عن كل علم يظن نفسه عالماً بكل العلوم ويتحدث عنها وكأنه ملم بها بل ويستنبط ولا يكتفي بذلك بل وأحياناً يصل به الغرور إلى هدم بعض الآراء أو النتائج التي أتى بها علماء سابقين وهو فى الأساس ليس لديه من العلم ما يكفي حتى ليفهم تلك الآراء التي ينتقدها ويشكك في صحتها و يكتفي بتلك القشور ولا يسعى لطلب المزيد من العلم لأنه يظن واهماً أنه وصل للكمال.
والآن عزيزي القارئ سوف أطلب منك إجابة على سؤالي الآتي :
هل سبق أن وقعت فى وهم “الوصول للكمال” أو تعيشه الآن؟
إذا كانت إجابتك نعم بأنك قد عشته من قبل فلا بأس يبدو أنك قد تعلمت الدرس وعلمت بأن لا أحد يصل للكمال ابداً لان عقولنا مهما تدرك من الأمور فهي لها قدرات محدودة والعلم لا حد له ولا أحد يستطيع أن يدرك نهايته .
وإذا كانت إجابتك بنعم أنك تعيش هذا الوهم الأن فأنا أنصحك أن تقرأ أكثر ولا تكتفي بمجرد قراءة قشور فكلما قرأت يزداد علمك بجهلك فالإمام الشافعي رحمه الله في قصيدة له كان يقول:
كلما أدبني الدهر …. أراني نقصَ عقلي
وإذا ما ازددت علماً ….. زادني علماً بجهلي
وفى قصيدة أخرى يقول:
تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالماً … وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وإنَّ كَبِير الْقَوْمِ لاَ علْمَ عِنْدَهُ …. صَغيرٌ إذا الْتَفَّتْ عَلَيهِ الْجَحَافِلُ
وإنَّ صَغيرَ القَومِ إنْ كانَ عَالِماً …. كَبيرٌ إذَا رُدَّتْ إليهِ المحَافِلُ
وإذا كانت إجابتك لا، فاحمد الله على ذلك لانك مازلت بخير ولم تقع فى الوهم لذلك أنصحك بأن تعترف بجهلك دائماً وليس هذا يعني أنك تستسلم لجهلك ولفكرة محدودية عقلك ، ما أقصده هو أن تظل تقرأ وتسعى وتتعلم وتخطئ وتصيب، فليس مطلوب منك أن تكون العالم الوحيد والمتحدث الرئيسي في كل جلساتك مع الأصدقاء او في التجمعات العائلية وغير العائلية، فليس من العيب ان تقول لا أعلم وتعطي لنفسك فرصة لسماع الآخرين والاستفادة من علمهم وخبراتهم ومع الاطلاع والبحث يجعلك هذا أكثر ثقافة، ولكن من العيب أن تتوهم أنك عالماً بكل شيئ فلا تسعى لتزويد علمك وإنما فقط تظل تتحدث عن علمك القليل وكأنه بحر لا نهاية له.
نعم سيبدو لك ذلك لأنك فى الحقيقة تكون جاهلاً بجهلك لذا فاعترف بجهلك لتنجو من ذلك الوهم ولا تقع فيه ابداً الحل بيدك الآن، فقط أعترف بجهلك.