العالم محمد الفارابي: قصة حياة المعلم الثاني للبشرية
في بلاد ما وراء النهر، وفي المكان الذي يسمى الآن تركمانستان وبالتحديد في مدينة فاراب، رُزق القائد التركي “محمد بن أوزلغ” بولد، وكان ذلك عام 260 من الهجرة، وقد قام بتسميته على إسمه ليصبح اسمه “محمد بن محمد بن أوزلغ”، وتَمُر الأيام ويكبر الطفل محمد، ولكن لم تكن اهتماماته وهواياته تدل على أنه سيحقق ما يتمناه منه أبوه.
محمد الفارابي وحب العلم منذ الطفولة
كان أبيه يرغب بأي شكل من الأشكال أن يصبح ابنه فارساً كبيراً ويدخل الجيش ويصبح قائداً في الجيش لكي يخلفه في قيادته بعد وفاته، ولكن على العكس من ذلك كان الطفل منغمساً في شيء آخر تماماً وهو القراءة والتعلم في مختلف العلوم من الرياضة إلى تعلم اللغات المختلفة إلى علوم الفلسفة والمنطق وغيرها من العلوم التي بدأت في جذب انتباه هذا الطفل الصغير الذي ينتظره الكثير في مجال العلم ليحققه، وقبل ذلك قد استحوذ حب العلم على محمد من طفولته إلى صباه حتى شبابه.
بعد أن أصبح محمد شاباً يافعاً شعر بأنه بحاجه لأن يعمل ويوفر لنفسه مصدر دخل، ومن هنا بدأت تظهر بداية مرحلة جديدة في حياته، مرحلة تحتاج منه أن يعمل في وظيفة وذلك على الرغم من وضع والده الجيد في المجتمع وقدرته على توفير ما يحتاجه، ولكنه كان يرفض بأي شكل من الأشكال أن يكون عالةً على أحد ولو حتى والده.
كيف استطاع الفارابي التوفيق بين العمل والتعلم؟
ولكن المشكلة التي تواجهه الآن هو شعوره بأن الانغماس في العمل يبعده عن متعة القراءة وتحصيل العلوم، ومن ناحية أخرى فهو يرى أنه من الضروري أن يعمل ولا يصبح عاطلاً عن العمل، ومن هنا بدأ محمد بالبحث عن عمل يضمن له مصدر دخل ومن ناحية أخرى يوفر له الوقت الذي يحتاجه للدراسة والقراءة.
وكانت هذه الوظيفة هي عمله كحارسٍ في بستان حيث أعطاه ذلك العمل الكثير من الوقت الذي كان يحتاجه للقراءة، فاستطاع خلال ذلك الوقت قراءة الكثير من الكتب في مختلف العلوم، دعنا نقول أنه قد غطى معظم العلوم وقراءة أغلب الكتب المتوفرة في بلدته مدينة فاراب، وبذلك شعر بأنه لم يعد يتعلم المزيد بوجوده في بلدته مدينة فاراب، ومن هذه النقطة بدأ محمد بالتفكير في السفر والانتقال من البلدة التي يعيش فيها والذهاب إلى بغداد والتي كانت حينها عاصمة من عواصم العلم على المستوى العالمي وقد كانت تلقب بمدينة السلام.
رحلة محمد الفارابي إلى بغداد
على الرغم من المسافات الشاسعة التي كانت تفصل بين بلدة فاراب التي نشأ فيها محمد وبين بغداد، ولكنه أصر على خوض هذه التجربة وكل ذلك بالطبع من أجل تحصيل العلم، ولعل من الغرائب في رحلة محمد أنه خلال رحلته قام بأخذ الكثير من الكتب معه حتى لا يضيع وقت الرحلة بدون الاستفادة منه.
انطلق محمد تاركاً بلده التي ولد وعاش فيها مدينة فاراب وهي نفسها المدينة التي سيسمى باسمها فيما بعد وسيشتهر في عالم العلماء باسم “محمد الفارابي”، وتبدأ من هنا رحلته في عالم العلم لتكون محطته الأولى هي مدينة بغداد مدينة العلم والسلام.
بزوغ نجمه في بغداد
بعد أن وصل الفارابي إلى بغداد لم يضع الوقت، حيث بدأ محمد الفارابي بالبحث بكل كثبٍ عن أهل العلم والعلماء في بغداد ليبدأ من هنا رحلته في الاستزادة من العلوم، وكان لمحمد الفارابي الكثير من النظريات والآراء التي طالما كانت محل نقاش وجدل بينه وبين الكثير من العلماء في بغداد، ولعل معظم تركيز اهتمامات محمد الفارابي في ذلك الوقت كانت في علوم الفلسفة والمنطق واللغات، ولكنه بدأ بالتوجه في ذلك الوقت لعلم جديد وهو علم الطب والذي طالما كان يريد تعلمه والتخصص فيه.
ومن هنا بدأ بالسؤال عن أفضل الأطباء والمتخصصين في علوم الطب ليتعلم على يديه، وكان هذا هو سبب رحلة محمد الفارابي الثانية والتي كانت إلى مدية حران بالشام ليتعلم على يد الطبيب الشهير يوحنا بن حيلان والذي كان أحد أعلام الطب في ذلك الوقت.
رحلة محمد الفارابي الثانية باتجاه الشام
وصل الفارابي إلى مدينة حران بالشام، وبدأ تلقي أول دروسه على يد الطبيب يوحنا بن حيان، ولم تكن رغبة محمد الفارابي في تعلم علم الطب هو رغبته في العمل كطبيب ولكنه كان يريد تعلم الطب بهدف الاستزادة من العلوم والتطوير فيها، ومن هنا قد انفتح علم جديد أمام محمد الفارابي وعالم جديد أيضاً، ويبدو أن الإقامة في الشام قد أعجبت محمد الفارابي فقرر أن يطيل في هذه الإقامة بعد أن أنهى ما بدأه مع الطبيب يوحنا بن حيلان.
انتقال الفارابي إلى مدينة حلب
وتشاء الأقدار أن يتقابل محمد الفارابي مع والي مدينة حلب بالشام سيف الدولة الحمداني والذي اشتهر باهتمامه بالعلم والعلماء، ومن هنا انتقل محمد الفارابي إلى مدينة حلب وأقام في رعاية سيف الدولة الحمداني، وهناك تفرغ لكتابة المزيد من الكتب في فروع العلم المختلفة.
كان محمد الفارابي في ذلك الوقت بمثابة كنز كبير من العلوم المختلفة فقد استطاع أن يتخصص في علوم مختلفة مثل الفلسفة والمنطق والعلوم والرياضيات والموسيقى والطبيعيات والطب والأدب واللغات، وكل هذا جعله يناقش مختلف العلماء في مختلف التخصصات ومجادلتهم بالحجة والبرهان، بل ليس فقط مناقشته فقد بدأ الكثير من المتخصصين بالكتابة وراءه ما يقول.
رحلة الفارابي الأخيرة إلى دمشق
ومن هنا أصبح محمد الفارابي من المقربين بشكل كبير من الحاكم سيف الدولة فكما ذكرنا كان لديه شغف واهتمام كبير بالعلم والعلماء، وقرر سيف الدولة الحمداني أن يضم دمشق إلى إمارته، ولعل أول ما فكر فيه هو أن يصطحب معه محمد الفارابي إلى دمشق، وقام بتوفير كل ما يطلبه محمد الفارابي من كتب أو أدوات يحتاجها في البحث والتجربة، كما وفر له بيتاً كبيراً وبه بستان كبير.
عاش الفارابي في دمشق وبدأ في كتابة المزيد والمزيد من الأبحاث والكتب حيث كانت هذه الفترة من حياة عالمنا محمد الفارابي من أكثر الفترات غزارة في التأليف والكتابة، حيث قام بتأليف الكثير من الكتب ولعل أبرز ما قام بتأليفه هو كتابه الشهير “إحصاء العلوم وترتيبها والتعريف بأغراضها” والذي كان كتاباً شاملاً جامعاً لكل العلوم تقريباً في ذلك الوقت، قام في هذا الكتاب بوضع وكتابة كل العلوم التي وصل إليها الإنسان في ذلك الوقت، والذي كان إضافة كبيرة للعالم في ذلك الوقت، ليتعلم منها لأجيال الكثيرة بعد ذلك.
سنوات محمد الفارابي الأخيرة
عاش الفارابي سنواته الأخيرة في مدينة دمشق، حتى توفي عام 339 من الهجرة، ليترك وراءه عشرات المؤلفات في شتى أنواع العلوم، وإذا كان الفيلسوف اليوناني أرسطو قد سمي المعلم الأول، فقد فاز محمد الفارابي بجدارة على لقب “المعلم الثاني”، وذلك بالطبع يعود لما قدمه عالمنا الجليل من أبحاث ومؤلفات ساهمت بشكل كبير في مختلف العلوم، و ظلت لعقود بعد وفاته مصدر ومرجع للكثير من العلماء والمتخصصين والطلاب في مختلف الدول والأقطار ليس فقط في الأمة الإسلامية بل حتى في أوروبا، وبذلك يظل العالم محمد الفارابي نجماً بازغاً في سماء العلم على مر الأزمان ومؤثراً على الكثير من الأجيال من بعده من علماء عظماء في تاريخ هذه الأمة.