ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة ، هكذا يبدأ د. فؤاد زكريا كتابة “التفكير العلمي” وهو كتاب يفترض أن يقرأه كل من يعرف القراءة ويستوعب ما فيه كل من يمارس عملا يحتاج إلى تفكير ، كتابة أو بحثا أو سياسة أو حتى حديث مع الآخرين ، التفكير العلمى الذى نقصده لا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة ولا يتطلب أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني .
ما الذي نقصده بالتفكير العلمي ؟
ما نقصده هنا بالتفكير العلمي هو التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه فى شئون حياتنا اليومية وكل ما يشترط فى هذا التفكير أن يكون منظما وأن يعتمد على مجموعة من المبادئ مثل مبدأ استحالة أن يكون الشئ ونقيضه صحيحان فى آن واحد ، والمبدأ القائل ان لكل حادث سببا وان المحال أن يحدث شئ من لاشئ …. وقبل كل ذلك أن يكون الفرد راغبا وبشكل حقيقى فى أن يفكر ويتحدث بموضوعية وبشكل علمي للوصول إلى ما هو صواب أو ما هو أقرب إلى الصواب ، لا أن يكون هدفه الرئيسي هو فرض رأيه بأي وسيلة سواء كان صوابا أو خطأ .
التفكير غير العلمي
التفكير العلمي أو العقلية العلمية هى ما نقصده ، ففى الوقت الذى نجح فيه العالم المتقدم – بعيدا عن اختلافنا معه فى نظمه الاجتماعية والسياسة – فى تكوين تراث علمي راسخ امتد فى العصر الحديث واصبح يمثل فى حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا معترفا به وبأهميته ، ورغم هذا مازلنا نمارس أشكالا وألوانا من التفكير غير العلمى والعشوائى والخرافى ، نبذل جهدا كبيرا دون ان نتقدم خطوة واحدة .
ويمكنك ملاحظة حوارات بعض أو كل المتحدثين فى البرامج التلفزيونية ، لاحظ الانفعال والصراخ ومحاولات كل طرف للتشويش على الآخر ، لاحظ استخدام معلومات خاطئة أو ناقصة أو خارجة من سياقاتها ، لاحظ محاولات تفسير معلومات ومقولات حسب الهوى ، لاحظ البدء فى افتراضات خاطئة ثم محاولة الوصول الى استنتاجات صحيحة ، كل ذلك وغيره يدخل فى باب التفكير غير العلمى .
ويشير الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه السابق ذكره إلى أمرين يدخلان فى باب العجائب على حد تعبيره :
الامر الاول
هو أننا بعد أن بدأ تراثنا العلمى فى العصر الذهبى للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقنا بها النهضة الأوربية الحديثة بقرون عديدة ، ما زلنا الى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية ، ومع ذلك ففى الوقت الذي تنطلق فيه سفنهم الفضائية الى خارج المجموعة الشمسية ، ما زلنا نتجادل عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة أو للطبيعة قوانينها الثابتة أم أن هناك أمور يمكن أن تحدث بلا سبب ومازال بعضنا يعتقد الخرافات وفي بركات الموتى وبركات القبور .
الامر الثاني
هو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمى المجيد ولكننا نقاوم العلم أشد مقاومة بل ويا للعجب فإن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد للعلماء المسلمين فى العصر الذهبى للحضارة الإسلامية ، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي فى ايامنا هذه ، فكيف إذن نتفاخر بعلم قديم ونستخف بالعلم الحديث وبمنهجه وانجازاته ؟.
يفسر د. زكريا هذا التناقض فى أحد أمرين ، فمن الجائز أن الذين يفخرون بعلمنا القديم يفعلون ذلك لأنه من صنعنا نحن ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث ما دام من صنع الآخرين ، ومن الجائز أيضا أن تأكيدهم لامجاد المسلمين فى ميدان العلم إنما يرجع الى اعتزازهم بالتراث أيا كان ميدانه ومن ثم فإن كل ما يخرج من نطاق هذا التراث يستحق الإدانة أو الاستخفاف فى نظرهم .
معركة العلم وانتصاره
العلم ليس منافسا ولا معاديا لأى شئ ولا لأى شخص والمعارك التى حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم ، و أعظم خطأ يرتكبه المدافعون عن فكرة أو نشاط هو أن يعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم ، فعلت ذلك الكنيسة الأوربية فى مطلع عصر النهضة فقام رجالها يحاربون العلم الناشئ الوليد و يضطهدون رواده حتى وصل الأمر إلى حرق بعضهم ولم يكن ذلك منهم إلا عن جهل بطبيعة العلم أو بطبيعة الدين أو بكليهما معا ، وربما كان ايضا خوفا على نفوذ سيضيع او دفاعا عن مصالح يتوهمون ان العلم سيهددها ، ورغم كل العنف الذى حورب به العلم والعلماء ، ظل العلم يسير فى طريقه المأمول بهدوء وثقة ويحرز الانتصار تلو الانتصار واضطرت الكنيسة الأوربية آخر الأمر الى التراجع امام قوة المعرفة وعظمة الحقيقة التي لا يمكن أن ينكرها عقل سليم أو ترفضها نفس سوية .
لماذا التفكير العلمي مطلوب ؟
التفكير العلمي مطلوب فى كل مناحى الحياة ، فى الاقتصاد والاجتماع والتعليم والتربية والسياسة والثقافة ، أما أن نمارس شئون حياتنا بعشوائية وتلقائية وتخبط وان نخلط بين أمنياتنا وبين واقعنا الذى يحتاج إلى دراسة وفهم وتخطيط ونتصور ان الناتج سيكون صحيحا فهو وهم خادع ، فالمقدمات الخاطئة ستؤدى حتما الى نتائج خاطئة .